جنة الدنيا
08-28-2009, 05:37 AM
مقاربة نفسية- مسرحية بين علم النفس والتمثيل
لعنة مقدسة تلك التي حلت على الممثل السائر برهبة وخشوع فوق خيط الحقيقة الذهبي الفاصل بين تناقضات وجودنا، بين الظل والنور، الخيال والواقع، الموت والحياة..
رعب عميق يلفنا إذا فكرنا للحظة باْن وجودنا هو فقط ما نحن عليه في الواقع: كل يوم نستيقظ، نقف أمام المرآة. نتنكر بأحد أنواع الألبسة ونخرج، لنرى أشخاصاً آخرين هم كائنات مثلنا انمسخ وجودها، تشكلت تدريجياً وصارت الى ما هي عليه، مجرد اشارات وطرق تعبير وأشكال تمارس حياتها من تحت أقنعة ضجرت سكون الواقع، وعنفه ليس المادي أو الاجتماعي بل ثقله الموجود رغم أنفنا، الذي يفترسنا من كل الجهات ويخصي محاولاتنا الشعورية وربما اللاشعورية في اختبار جديد ما. لامهرب من صرامة هذا الواقع بمعطياته الاجتماعية والدينية والبيولوجية التي لم نخترها، وبنفس الوقت علينا أن نقتنع دائماً بأنها وجهنا الحقيقي فنسلّم به وبأحكام اخلاقه المتطرفة وسخرية قدره!!
هل نهرب؟أم نغير؟.. ألا يحق لنا أن نرفض؟ ان نبصق في وجه هذا القدر ونسخر منه ولو مؤقتاً؟ ان نتخيل بأننا أبطال وبأننا قادرين على الفعل؟ .. ألا يحق لنا ان نعري هذا الواقع الأسود لنظهر ما تحته من قطران او ثلوج وألوان؟ دون ان نستفزه لنهشنا من جديد ووصمنا بالجنون...
نعيم الممثل: "فردوسنا المفقود"
مقابل ذلك العالم الواضح والرتيب هناك واقع آخر مشحون بنزوات ومشاكسات تتشوق لأن تتحرر من قيود الواقع رغم ألوانها الفاقعة. قد لا نملك جرأة الاعلان عنها لأنها تخجلنا او ترعبنا ولكن إذا اختلينا بحرية مع انفسنا فإن هناك جسراً يمتد الى ذاك العالم الكثيف الملئ بالرموز والتعقيدات والذي يسوده كائن آخر (أو أكثر) عجيب، لا يظهر الى العالم الخارجي إلا متنكراً بثياب الأحلام أو الهذيان. كثيراً ما نستدعي هذا الآخر ساعة اليقظة ونحاوره أو أحياناً يفرض نفسه علينا في لحظات غضب أو حزن أو تشوش، لكن حوارنا هذا يبقى- بلغة نفسية- استبطاناً أو تأملاً داخلياً للأفكار والمشاعر وبلغة مسرحية مونولوجاً ذاتياً مدفوناً في اللاشعور، يعيش ظلامنا، ولا نجرؤ على الافصاح عنه، لأننا قد لا نرى ضرورة لذلك، فيتلاشى الكائن الآخر في مكان ما داخلنا عند اول احتكاك بسيط له بالواقع.
لكن ماذا لو استطعنا تجسيد كل ما نفكر فيه أو نستبطنه على أرض الواقع وبين الآخرين؟ ماذا لو كانت كل نزوة ممكنة وكل رغبة محَققة وكل فكرة واقعة؟ : فوضى..؟ عالم غرائزي...؟ جحيم وجنون...؟ أم فردوس ونعيم؟
يبدو أن تحقيق ذلك من خلالنا محال، لكن إذا ما نظرنا فإننا سنعثر على شخص أنابه البشر منذ الأزل ليَعبُر بأمان فوق خيط الضوء الرفيع الفاصل بين الواقع والحلم بين ذاتنا الخارجية وذاتنا الضمنية، في عالم آخر متفرد تسبح فيه الأشياء في لا معقوليتها ضمن العالم العقلاني والصارم.
زمان آخر داخل الزمن ومكان آخر داخل المكان نشتهيه فيغرينا: "عالم الدراما" الممثلون هم مخلوقاته التي أوكلنا إليها تجسيد رغباتنا الآثمة والطيبة والحالمة ليعيشوا خلف الكاميرا وفوق المسرح كل أعاجيبنا التي تصرخ داخلنا وليتذوقوا بإبداعهم نعيماً فقدناه قبل أن نعيشه.
ما نراه نحن في ذاتنا الضمنية من وسيلة يساعدنا الحوار معها على معرفة دوافعنا وأسباب سلوكنا، يراه الممثل ككائن خلاق يتجلى في أجمل صوره وأكثرها قدرة على الانتاج والفاعلية عندما ينبثق عنها بعد حواره معه ذات ثالثة هي ليست سوى (الشخصية) أو الدور الذي يريد هذا الممثل ان يؤديه. إنه لا يكتفي مثلنا بتأمل ذاته والاستبطان داخلها بل أكثر من ذلك إنه ينبش ذاته بحثاً عن الشخصية يستدعي كل تفاصيلها ويعيد صياغتها ليعيش لذة اكتشاف وجود جديد في ادق تفاصيله ومن ثم بعثه الى الحياة مجسداً بأكثر الأدوات بدائية وأصالة والتي لا تتعدى الجسد والصوت والموهبة بالتأكيد.
إنه باحث دؤووب عن الحياة التي ماتت بيننا وعلى الورق، يبحث عنها داخله وداخل الاخرين الذين يشبهونها، يفكر بعقلها ويتأمل لغتها وتفكيرها ومشاعرها وسلوكها بصمت، يتخيلها ويجري معها نفس الحوار الذي نقوم نحن به عندما نكون بمفردنا، ليس من أجل أن ينظم أفكاره أو من أجل أن يغرق معها في عالم بعيد ومنعزل بل من أجل أن يعيد نحت شخص آخر منها: يدعوها لضيافته، يسألها، يتشاجر معها، يستجر ردود أفعالها وقد تفعل هي معه ذات الشئ، يتفاوض معها، وقد يغير شكلها، يشوهها ليعود فيجمّلها تدريجياً حتى تنبعث الى الحياة من خلاله وكأنها انسان جديد خلق بالتحامه معها. انسان يتصرف تبعاً لتاريخه الشخصي والاجتماعي الخاص وتبعاً لانتمائه الديني والوطني، انسان له بنيته النفسية الفريدة وآليات تفكيره، له تطلعاته ورؤاه وكيانه المستقل وردود أفعاله اللامتوقعة "حتى أنه أحياناً ما يذكر الممثلون انهم يصابون بالدهشة من الطريقة التي تستجيب بواسطتها الشخصية التي يجسدونها لموقف معين، من خلال البكاء مثلاً بينما لم يكن متوقعاً منها أن تفعل ذلك" (ص140، سيكلوجيا فنون الأداء). إنها ذات أخرى، وجود جديد يبعث الى الحياة من خلال الممثل أو لعله"وجود آخر يبعث في الممثل" (ص77، الأنا-الاخر)، وجود جديد بالشكل والتفكير والبنية النفسية.
آلا يكون هذا شبيهاً بالنعيم بالنسبة لنا إذا كانت الشخصية التي نرى الممثل يلعبها مطابقة لتلك التي نرغب أن نكونها سراً أولتلك الشبيهة بنا في أحلامنا اليقِظة أو النائمة التي لا نملك تحقيقها، وإذا كانت هي كذلك بالنسبة لنا ترى ماذا ستكون بالنسبة للمثل إن كان في الشخصية ما يشبه أحلامه فيراها ولو في عالم افتراضي صغير مجسدة بجسده؟!
تمثيل أم حلم أم مرض العقلي؟
حين تغادر الذات جسد الممثل تاركة خلفها كل شئ حتى اسمها لتحل محلها ذاتاً جديدة، فإنها تعلن بشكل ما تمردها على وحشة هذا الوجود وظلمه، وانفتاحها اللانهائي على التجدد والتغيير، ولكي يستحضر الممثل تلك الذات عليه أن يستخدم عمليات عقلية ومعرفية خاصة وأن يستسلم كلياً للاحتمالات التي قد تحملها له هذه الولادة الجديدة وأن يندمج بها حتى تستولي عليه ليدخل بعد ذلك فيما يشبه الغيبوبة المؤقتة عن ذاته الأصلية وهو في كامل استمتاعه بطريقته في رفض كل ما هو اعتيادي، وتعبيره العلني عن شخصيات قد تحمل الكثير من سمات لاشعورنا المكبوت والملجوم، والتي تكون أيضاً "بمنزلة الجانب الخاص من جوانب الذات الداخلية للممثل والتي لا تحظى بنوع من التهوية والتعبير المناسب عنها" (ص141، سيكلوجيا فنون الأداء).
لكن ألا يبدو التمثيل بهذا المعنى ضرباً من الجنون أو فقداناً للعقل لما ينطوي عليه من تحول عجيب في الشخصية؟
جميعنا لدينا ذوات مخبوءة في اللاشعورلا تستطيع التعبير عن نفسها لأنها محملة بانفعالات ورغبات لا يفهمها منطق الواقع، والكبت حريص على دفن هذه الميو ل لما تسببه من اختلال في توازن الفرد أو تعدٍ على المنطق إذا ما ظهرت.
وهنا يتقاطع الممثل مع كل انسان، إلا انه هو فقط من يستطيع أن يتحايل علناً على الكبتفلا يكتفي بإخراج هذه الذات الى ساحة الوعي كما نفعل نحن في الحلم أو كما يحصل للمرضى العقليين، بل ويعيش حياتها التي يستحيل علينا أن نعيشها واقعياً، يعكسها لنا بالطريقة التي نحبها لذلك نجده قادرعلى شحن كامل كياننا بالطاقة وزيادة ثقتنا بوجود المستحيل من خلاله.
التمثيل والمرض العقلي:
في المرض العقلي وتحديداً في الفصام يعلن الانسان أيضاً رفضه للوجود لكن بطريقة تجعله يغرق في عالم معزول شديد الخصوصية ولا صلة له بالواقع، لا حدود فيه بين ذاته وأفكاره وجسده عن أي ذات وأفكار وأجساد أخرى فيختلط العالمان بغرابة واضحة هدّامة له ولمن حوله.
إنه لا يقدر أن يميز بين العالمين الداخلي والخارجي ولا أن يفصل بين حديثه مع نفسه (أفكاره الضمنية) وحديثه مع الآخرين "فيخلط باستمرا اللغة التي تتعامل مع الأحداث في العالم الخارجي بمواد من خياله، ونظراً لأن هذه المواد تكون شخصية وذاتية تكون النتيجة تشويش وتعطيل استمرار التواصل" (ص218، سيكلوجيا اللغة والمرض العقلي) ويبدو حديثه في النهاية كالحلم بلا منطقيته لكن الفرق أنه يحدث في اليقظة (إنه حالم بعيون مفتوحة) يتعامل مع المحيط الواعي كما نتعامل نحن في أحلامنا فلا يرى فرقاً بين العالمين ولا يعي غرابة افكاره وذاته ومدى بعدها عن فهم الاخرين، عالمه فوضى من نرجسية تعيقه عن الحياة العادية وتحطمه بشراستها، إنها معاناة لا ارادية تنهش عملياته العقلية وبنيته النفسية ولا يملك صدها.
ربما كان التمثيل انفصاماً عن الواقع كالفصام لكن تأثيره يهذب النفس ويرتقي بها، ويفتح أمامها احتمالات لا تحصى للحياة بأقنعة وأزياء تلون الوجود وتجعل صاحبها أكثر ثقة بامكانياته وانسانيته، بينما ما ندعوه احياناً بالـ(جنون) للدلالة على المرض العقلي فهو مُعذب للنفس، يسد في وجهها كل أبواب الحياة...الاثنان ينسلخان عن واقعهما ويفقدان عقليهما لكن الأول بقرار ووعي وارادة منه بل وباستمتاع بينما الثاني ساقه القدر الى عالم المرض دون وعي أوارادة.
التمثيل والأحلام:
"لو كان في وسع الفرد أن يجوس خلال الفردوس في أحلامه، وأن يتلقى زهرة تقدم إليه وتكون دليلاً على أن روحه كانت في الفردوس يوماً ما بالفعل، ثم أفاق من نومه فوجد الزهرة في يده-آهٍ، فماذا بعد ذلك؟" (ص71، أسرار النوم).
أحلامنا من حيث شكلها تشبه بغرابتها وصورها عالم الفصامي وعالم التمثيل المنفصل عن الواقع، ومن حيث مضمونها فهي ليست سوى مجموعة رغبات كبتت في اللاشعور تسعى دائماً لتحقيق اشباعها بطرق مغرقة بالرمزية أثناء الحلم فقد عرف فرويد الحلم: “بأنه تحقق مقنّع لرغبة مكبوتة”(ص14، التحليل النفسي). وهي بهذا تشكل أحد أشكال حسم الصراعات النفسية بين مكبوتات اللاشعور وقوى الشعور لدى كل انسان، تأخذ هذه الرغبات من أعراض المرض النفسي شكلاً متطرفاً في التعبير عن نفسها إذ يتزايد ضغط الكبت على بوابات الوعي ويفرض نفسه في النهاية بشكل عَرض مرضي او هذيان، أما في التمثيل أو الدراما فالمكبوت يجد طريقة مقبولة من قبل الانسان اليقظ والسليم في التعبير عن نفسه خاصة عندما تتمتع الأحداث والشخصيات بأبعاد زمانية ومكانية غريبة ومختلفة تشبه تلك التي تحدث في الأحلام.
وفي الحالات الثلاث لا تُشبع الرغبات المكبوتة الكامنة وراء كل هذيان أو حلم أو تمثيل بطرق مباشرة وعلنيةبل تبقى متنكرة ومرمّزة بطريقة تسمح لها بالمرور الى الوعي لتمنح صاحبها بعض التنفيس او التطهير أو التوازن.
ونحن نعي أنه مهما اقتربت الأحلام من الواقع فإنها تبقى غير قابلة للتحقيق عند الصحو.. ليس فقط لأنها في النهاية حلم.. بل لأن غرابة هذا الحلم يجعل تحقيقه حتى لو أردنا ذلك مستحيل. لكن إذا سلمنا بأن الحلم مصدره رغبات غير محققة تظهر بصورة مغرقة في الرمزية والتعقيد، فإن هذه الرغبة قد يبصرها الوعي او الشعور احياناً وقد تتحرر من كبت اللاشعور لها بمساعدة من يُخضع هذه الرغبات للملاحظة الواعية، واحياناً قد نستطيع الوصول الى هذه الدوافع والرغبات الخفية إذا ما تأملنا أحلام النوم واليقظة فتفسير الأحلام كما يرى فرويد "هو الطريق الملكية الى معرفة ما هو لاشعوري في الحياة النفسية" (ص14، التحليل النفسي).
منقول من موقع نساء سوريا
لعنة مقدسة تلك التي حلت على الممثل السائر برهبة وخشوع فوق خيط الحقيقة الذهبي الفاصل بين تناقضات وجودنا، بين الظل والنور، الخيال والواقع، الموت والحياة..
رعب عميق يلفنا إذا فكرنا للحظة باْن وجودنا هو فقط ما نحن عليه في الواقع: كل يوم نستيقظ، نقف أمام المرآة. نتنكر بأحد أنواع الألبسة ونخرج، لنرى أشخاصاً آخرين هم كائنات مثلنا انمسخ وجودها، تشكلت تدريجياً وصارت الى ما هي عليه، مجرد اشارات وطرق تعبير وأشكال تمارس حياتها من تحت أقنعة ضجرت سكون الواقع، وعنفه ليس المادي أو الاجتماعي بل ثقله الموجود رغم أنفنا، الذي يفترسنا من كل الجهات ويخصي محاولاتنا الشعورية وربما اللاشعورية في اختبار جديد ما. لامهرب من صرامة هذا الواقع بمعطياته الاجتماعية والدينية والبيولوجية التي لم نخترها، وبنفس الوقت علينا أن نقتنع دائماً بأنها وجهنا الحقيقي فنسلّم به وبأحكام اخلاقه المتطرفة وسخرية قدره!!
هل نهرب؟أم نغير؟.. ألا يحق لنا أن نرفض؟ ان نبصق في وجه هذا القدر ونسخر منه ولو مؤقتاً؟ ان نتخيل بأننا أبطال وبأننا قادرين على الفعل؟ .. ألا يحق لنا ان نعري هذا الواقع الأسود لنظهر ما تحته من قطران او ثلوج وألوان؟ دون ان نستفزه لنهشنا من جديد ووصمنا بالجنون...
نعيم الممثل: "فردوسنا المفقود"
مقابل ذلك العالم الواضح والرتيب هناك واقع آخر مشحون بنزوات ومشاكسات تتشوق لأن تتحرر من قيود الواقع رغم ألوانها الفاقعة. قد لا نملك جرأة الاعلان عنها لأنها تخجلنا او ترعبنا ولكن إذا اختلينا بحرية مع انفسنا فإن هناك جسراً يمتد الى ذاك العالم الكثيف الملئ بالرموز والتعقيدات والذي يسوده كائن آخر (أو أكثر) عجيب، لا يظهر الى العالم الخارجي إلا متنكراً بثياب الأحلام أو الهذيان. كثيراً ما نستدعي هذا الآخر ساعة اليقظة ونحاوره أو أحياناً يفرض نفسه علينا في لحظات غضب أو حزن أو تشوش، لكن حوارنا هذا يبقى- بلغة نفسية- استبطاناً أو تأملاً داخلياً للأفكار والمشاعر وبلغة مسرحية مونولوجاً ذاتياً مدفوناً في اللاشعور، يعيش ظلامنا، ولا نجرؤ على الافصاح عنه، لأننا قد لا نرى ضرورة لذلك، فيتلاشى الكائن الآخر في مكان ما داخلنا عند اول احتكاك بسيط له بالواقع.
لكن ماذا لو استطعنا تجسيد كل ما نفكر فيه أو نستبطنه على أرض الواقع وبين الآخرين؟ ماذا لو كانت كل نزوة ممكنة وكل رغبة محَققة وكل فكرة واقعة؟ : فوضى..؟ عالم غرائزي...؟ جحيم وجنون...؟ أم فردوس ونعيم؟
يبدو أن تحقيق ذلك من خلالنا محال، لكن إذا ما نظرنا فإننا سنعثر على شخص أنابه البشر منذ الأزل ليَعبُر بأمان فوق خيط الضوء الرفيع الفاصل بين الواقع والحلم بين ذاتنا الخارجية وذاتنا الضمنية، في عالم آخر متفرد تسبح فيه الأشياء في لا معقوليتها ضمن العالم العقلاني والصارم.
زمان آخر داخل الزمن ومكان آخر داخل المكان نشتهيه فيغرينا: "عالم الدراما" الممثلون هم مخلوقاته التي أوكلنا إليها تجسيد رغباتنا الآثمة والطيبة والحالمة ليعيشوا خلف الكاميرا وفوق المسرح كل أعاجيبنا التي تصرخ داخلنا وليتذوقوا بإبداعهم نعيماً فقدناه قبل أن نعيشه.
ما نراه نحن في ذاتنا الضمنية من وسيلة يساعدنا الحوار معها على معرفة دوافعنا وأسباب سلوكنا، يراه الممثل ككائن خلاق يتجلى في أجمل صوره وأكثرها قدرة على الانتاج والفاعلية عندما ينبثق عنها بعد حواره معه ذات ثالثة هي ليست سوى (الشخصية) أو الدور الذي يريد هذا الممثل ان يؤديه. إنه لا يكتفي مثلنا بتأمل ذاته والاستبطان داخلها بل أكثر من ذلك إنه ينبش ذاته بحثاً عن الشخصية يستدعي كل تفاصيلها ويعيد صياغتها ليعيش لذة اكتشاف وجود جديد في ادق تفاصيله ومن ثم بعثه الى الحياة مجسداً بأكثر الأدوات بدائية وأصالة والتي لا تتعدى الجسد والصوت والموهبة بالتأكيد.
إنه باحث دؤووب عن الحياة التي ماتت بيننا وعلى الورق، يبحث عنها داخله وداخل الاخرين الذين يشبهونها، يفكر بعقلها ويتأمل لغتها وتفكيرها ومشاعرها وسلوكها بصمت، يتخيلها ويجري معها نفس الحوار الذي نقوم نحن به عندما نكون بمفردنا، ليس من أجل أن ينظم أفكاره أو من أجل أن يغرق معها في عالم بعيد ومنعزل بل من أجل أن يعيد نحت شخص آخر منها: يدعوها لضيافته، يسألها، يتشاجر معها، يستجر ردود أفعالها وقد تفعل هي معه ذات الشئ، يتفاوض معها، وقد يغير شكلها، يشوهها ليعود فيجمّلها تدريجياً حتى تنبعث الى الحياة من خلاله وكأنها انسان جديد خلق بالتحامه معها. انسان يتصرف تبعاً لتاريخه الشخصي والاجتماعي الخاص وتبعاً لانتمائه الديني والوطني، انسان له بنيته النفسية الفريدة وآليات تفكيره، له تطلعاته ورؤاه وكيانه المستقل وردود أفعاله اللامتوقعة "حتى أنه أحياناً ما يذكر الممثلون انهم يصابون بالدهشة من الطريقة التي تستجيب بواسطتها الشخصية التي يجسدونها لموقف معين، من خلال البكاء مثلاً بينما لم يكن متوقعاً منها أن تفعل ذلك" (ص140، سيكلوجيا فنون الأداء). إنها ذات أخرى، وجود جديد يبعث الى الحياة من خلال الممثل أو لعله"وجود آخر يبعث في الممثل" (ص77، الأنا-الاخر)، وجود جديد بالشكل والتفكير والبنية النفسية.
آلا يكون هذا شبيهاً بالنعيم بالنسبة لنا إذا كانت الشخصية التي نرى الممثل يلعبها مطابقة لتلك التي نرغب أن نكونها سراً أولتلك الشبيهة بنا في أحلامنا اليقِظة أو النائمة التي لا نملك تحقيقها، وإذا كانت هي كذلك بالنسبة لنا ترى ماذا ستكون بالنسبة للمثل إن كان في الشخصية ما يشبه أحلامه فيراها ولو في عالم افتراضي صغير مجسدة بجسده؟!
تمثيل أم حلم أم مرض العقلي؟
حين تغادر الذات جسد الممثل تاركة خلفها كل شئ حتى اسمها لتحل محلها ذاتاً جديدة، فإنها تعلن بشكل ما تمردها على وحشة هذا الوجود وظلمه، وانفتاحها اللانهائي على التجدد والتغيير، ولكي يستحضر الممثل تلك الذات عليه أن يستخدم عمليات عقلية ومعرفية خاصة وأن يستسلم كلياً للاحتمالات التي قد تحملها له هذه الولادة الجديدة وأن يندمج بها حتى تستولي عليه ليدخل بعد ذلك فيما يشبه الغيبوبة المؤقتة عن ذاته الأصلية وهو في كامل استمتاعه بطريقته في رفض كل ما هو اعتيادي، وتعبيره العلني عن شخصيات قد تحمل الكثير من سمات لاشعورنا المكبوت والملجوم، والتي تكون أيضاً "بمنزلة الجانب الخاص من جوانب الذات الداخلية للممثل والتي لا تحظى بنوع من التهوية والتعبير المناسب عنها" (ص141، سيكلوجيا فنون الأداء).
لكن ألا يبدو التمثيل بهذا المعنى ضرباً من الجنون أو فقداناً للعقل لما ينطوي عليه من تحول عجيب في الشخصية؟
جميعنا لدينا ذوات مخبوءة في اللاشعورلا تستطيع التعبير عن نفسها لأنها محملة بانفعالات ورغبات لا يفهمها منطق الواقع، والكبت حريص على دفن هذه الميو ل لما تسببه من اختلال في توازن الفرد أو تعدٍ على المنطق إذا ما ظهرت.
وهنا يتقاطع الممثل مع كل انسان، إلا انه هو فقط من يستطيع أن يتحايل علناً على الكبتفلا يكتفي بإخراج هذه الذات الى ساحة الوعي كما نفعل نحن في الحلم أو كما يحصل للمرضى العقليين، بل ويعيش حياتها التي يستحيل علينا أن نعيشها واقعياً، يعكسها لنا بالطريقة التي نحبها لذلك نجده قادرعلى شحن كامل كياننا بالطاقة وزيادة ثقتنا بوجود المستحيل من خلاله.
التمثيل والمرض العقلي:
في المرض العقلي وتحديداً في الفصام يعلن الانسان أيضاً رفضه للوجود لكن بطريقة تجعله يغرق في عالم معزول شديد الخصوصية ولا صلة له بالواقع، لا حدود فيه بين ذاته وأفكاره وجسده عن أي ذات وأفكار وأجساد أخرى فيختلط العالمان بغرابة واضحة هدّامة له ولمن حوله.
إنه لا يقدر أن يميز بين العالمين الداخلي والخارجي ولا أن يفصل بين حديثه مع نفسه (أفكاره الضمنية) وحديثه مع الآخرين "فيخلط باستمرا اللغة التي تتعامل مع الأحداث في العالم الخارجي بمواد من خياله، ونظراً لأن هذه المواد تكون شخصية وذاتية تكون النتيجة تشويش وتعطيل استمرار التواصل" (ص218، سيكلوجيا اللغة والمرض العقلي) ويبدو حديثه في النهاية كالحلم بلا منطقيته لكن الفرق أنه يحدث في اليقظة (إنه حالم بعيون مفتوحة) يتعامل مع المحيط الواعي كما نتعامل نحن في أحلامنا فلا يرى فرقاً بين العالمين ولا يعي غرابة افكاره وذاته ومدى بعدها عن فهم الاخرين، عالمه فوضى من نرجسية تعيقه عن الحياة العادية وتحطمه بشراستها، إنها معاناة لا ارادية تنهش عملياته العقلية وبنيته النفسية ولا يملك صدها.
ربما كان التمثيل انفصاماً عن الواقع كالفصام لكن تأثيره يهذب النفس ويرتقي بها، ويفتح أمامها احتمالات لا تحصى للحياة بأقنعة وأزياء تلون الوجود وتجعل صاحبها أكثر ثقة بامكانياته وانسانيته، بينما ما ندعوه احياناً بالـ(جنون) للدلالة على المرض العقلي فهو مُعذب للنفس، يسد في وجهها كل أبواب الحياة...الاثنان ينسلخان عن واقعهما ويفقدان عقليهما لكن الأول بقرار ووعي وارادة منه بل وباستمتاع بينما الثاني ساقه القدر الى عالم المرض دون وعي أوارادة.
التمثيل والأحلام:
"لو كان في وسع الفرد أن يجوس خلال الفردوس في أحلامه، وأن يتلقى زهرة تقدم إليه وتكون دليلاً على أن روحه كانت في الفردوس يوماً ما بالفعل، ثم أفاق من نومه فوجد الزهرة في يده-آهٍ، فماذا بعد ذلك؟" (ص71، أسرار النوم).
أحلامنا من حيث شكلها تشبه بغرابتها وصورها عالم الفصامي وعالم التمثيل المنفصل عن الواقع، ومن حيث مضمونها فهي ليست سوى مجموعة رغبات كبتت في اللاشعور تسعى دائماً لتحقيق اشباعها بطرق مغرقة بالرمزية أثناء الحلم فقد عرف فرويد الحلم: “بأنه تحقق مقنّع لرغبة مكبوتة”(ص14، التحليل النفسي). وهي بهذا تشكل أحد أشكال حسم الصراعات النفسية بين مكبوتات اللاشعور وقوى الشعور لدى كل انسان، تأخذ هذه الرغبات من أعراض المرض النفسي شكلاً متطرفاً في التعبير عن نفسها إذ يتزايد ضغط الكبت على بوابات الوعي ويفرض نفسه في النهاية بشكل عَرض مرضي او هذيان، أما في التمثيل أو الدراما فالمكبوت يجد طريقة مقبولة من قبل الانسان اليقظ والسليم في التعبير عن نفسه خاصة عندما تتمتع الأحداث والشخصيات بأبعاد زمانية ومكانية غريبة ومختلفة تشبه تلك التي تحدث في الأحلام.
وفي الحالات الثلاث لا تُشبع الرغبات المكبوتة الكامنة وراء كل هذيان أو حلم أو تمثيل بطرق مباشرة وعلنيةبل تبقى متنكرة ومرمّزة بطريقة تسمح لها بالمرور الى الوعي لتمنح صاحبها بعض التنفيس او التطهير أو التوازن.
ونحن نعي أنه مهما اقتربت الأحلام من الواقع فإنها تبقى غير قابلة للتحقيق عند الصحو.. ليس فقط لأنها في النهاية حلم.. بل لأن غرابة هذا الحلم يجعل تحقيقه حتى لو أردنا ذلك مستحيل. لكن إذا سلمنا بأن الحلم مصدره رغبات غير محققة تظهر بصورة مغرقة في الرمزية والتعقيد، فإن هذه الرغبة قد يبصرها الوعي او الشعور احياناً وقد تتحرر من كبت اللاشعور لها بمساعدة من يُخضع هذه الرغبات للملاحظة الواعية، واحياناً قد نستطيع الوصول الى هذه الدوافع والرغبات الخفية إذا ما تأملنا أحلام النوم واليقظة فتفسير الأحلام كما يرى فرويد "هو الطريق الملكية الى معرفة ما هو لاشعوري في الحياة النفسية" (ص14، التحليل النفسي).
منقول من موقع نساء سوريا