تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : نواقض الاستقامة: البراغماتية


Anas
01-25-2009, 11:25 PM
صلاح المختار/العراق


يترجم مصطلح البراغماتية (PRAGMATISM) إلى العربية بمصطلح الذرائعية، وباعتقادي أن هذه الترجمة غير دقيقة، لأنها لا تعكس جوهر الكلمة الأجنبية، بل تقدم جزءاً من معناها فقط. إذن ما هو المصطلح العربي الأقرب إليها؟ انه "النفعية". تعرف البراغماتية بأنها طريقة حل المشاكل والقضايا بواسطة وسائل عملية. وهذا التعريف وسيلة براغماتية بحد ذاته، لأنه محاولة لإخفاء جوهرها، القائم على قياس كل عمل أو شيء، أو حالة، بما تحققه من فائدة أو ضرر، فالشيء جيد وصالح إذا كان نافعاً، وهو سيئ إذا كان ضاراً. والسؤال هنا هو من يقرر الفائدة والضرر؟ انه الشخص المعني معتمداً على معاييره الخاصة كأداة لتقويم الأعمال والأشياء، ومن ثم يفقد الشيء خصائصه الموضوعية، "مثلاً الحق يصبح نسبياً، حسب الشخص المتعامل معه، وليس حالة تحددها عوامل موضوعية"، ويصبح عرضة لثقافة ومزاج ومصالح ونوعية قيم الشخص ذاته!



اصل البراغماتية


يمكن رصد المعاني المختلفة السائدة للبراغماتية في المجالين الاجتماعي والسياسي، ففي الغرب بشكل عام، يضعون البراغماتي مقابل الأيديولوجي، وكنقيض له، فحينما تقول "هذا الإنسان أيديولوجي"، فإنك تقصد انه يتقيد بمنظومة أفكار وأهداف ثابتة تحدد مواقفه العامة سلفاً، كالوطنية والقومية والدين. مقابل هذا النمط يقال "هذا الرجل براغماتي"، ويقصد بذلك انه متحرر من كل أيديولوجيا، او موقف مسبق، ويتصرف وفق اللحظة او الظرف، مستهدياً بما ينفعه ويضره هو شخصياً. لذلك فالبراغماتية، أساساً، هي منطلق فردي، وتجمع هذه المنطلقات عددياً، أي دون أن تصبح ذات مصدر جمعي واحد، لتعبر عن "مصالح مشتركة" بين أفراد توجد بينهم اختلافات وتناقضات جوهرية وثانوية كثيرة.
وازدهار هذه الفلسفة في أمريكا يفسر وبوضوح جوهرها، فأمريكا ليست دولة ذات هوية قومية، كفرنسا وإيطاليا مثلاً، بل هي ملاذ تجمعات مهاجرين، تركوا بلدانهم الأصلية من اجل الرزق، أو تم نفيهم إليها من السجون التي اكتظت بالمجرمين، أو من الهاربين من الاضطهاد الديني، لذلك كان طبيعياً أن تختلف، بل وتتناقض، ثقافاتهم ودوافعهم، وهنا برزت أهمية وجود فلسفة تلبي رغباتهم المختلفة، فازدهرت البراغماتية لأنها تخاطب، وتستجيب، للمصلحة الفردية وتمنحها غطاء "المشروعية الذاتية".



البراغماتية الانتهازية

ولئن كا ن المعنى السائد في أمريكا، هو الذي يطبع البراغماتية بطابع الذات المطلقة السيادة على المجموع، أو "النحن"، فإن ثمة مفهوم آخر اقل ذاتية ظهر في أوروبا، ويعد امتداداً للفكر البراغماتي، هو الذي طوره وبلوره في إطار فلسفي "ميكيافيلي"، والمتجسد في مقولة "الغاية تبرر الواسطة". إذ أننا مهما حاولنا أن ننسب هذا النمط من التفكير إلى فلسفات معينة، فإن جوهره يكمن في البراغماتية. إننا حينما نقول بأن عقيدتنا كذا نوصف بأننا إيديولوجيون في الغرب، لكننا حينما نفصل الهدف العقيدي عن قدسيته وجودته، ونستخدم وسائل لا أخلاقية، أو تناقضية، نقع في بئر البراغماتية.
وهذه الازدواجية "هدف نبيل ووسيلة وضيعة"، هي ابرز ما يميز الانتهازية السياسية، وشقيقتها التوأم: الانتهازية الاجتماعية، لأن الميكيافيلية تؤمن الزواج غير الشرعي بين نقيضين، استناداً لمفهوم محدد، هو تحقيق المصالح الخاصة، سواء بفرد أو جماعة. لقد تلوث الهدف النبيل بالوسيلة الفاسدة، والميكيافيلي يعرف تماماً أن التلوث قد وقع في صلب هدفه، الذي كان نبيلاً ونظيفاً، ومع ذلك يستمر في اتباع وسائله القذرة! ما هي النتيجة؟
بالطبع سيضطر الميكيافيلي لإعادة النظر، تدريجياً بأهدافه وإعادة تفسيرها وكتابتها بطريقة تفصلها عن اصلها، عملياً، وتجعل الأصل مجرد غطاء شكلي لفكر أخر مختلف تماماً. وهكذا نجد هذا الإنسان وقد صار "مركزاً للكون"، وليس جزءً أو ذرة منه ويخضع لقوانينه المطلقة، رغم انه في قرارة نفسه يدرك انه مازال ذرة تافهة في كون عظيم، سيده رب اعظم، يقرر كل شيء!
تلك الحقيقة تقرر طبيعة الانتهازي البراغماتي، فهو، مهما تظاهر بالقوة واليقين يمتلك عموداً فقرياً يسند موقفه مصنوعاً من نفايات مزابل الورق، لذلك سرعان ما يتمزق، ويسقط، عند مواجهة موقف صعب يهدد حياته، مصالحه الأنانية، فيتراجع وينقلب، كقرد السيرك، على ما كان يتباهى به، ويتبنى سيداً جديداً! أن الأصل الضائع في معادلة الانتهازي، الذي يستخدم البراغماتية لتبرير وتسويق مصالحه الأنانية، هو انه يدرك أنانيته ويعرف انه ملوث عقلياً وروحياً، مهما بدت أسنانه بيض، لذلك يفتقر الانتهازي، في كل أشكاله، إلى الاستعداد للتضحية بأي شيء مهم حتى لو كان ذلك من اجل مصلحة أخرى أنانية!



البراغماتية الواقعية!

يقدم البعض لدينا تفسيراً آخر للبراغماتية، عماده وصفها بأنها "خيارالواقعية". ففي غمرة مواجهة تحديات خطيرة، كالتي نواجهها في كل الوطن العربي، خصوصاً في العراق، طفا على سطح السياسة والفكر عدد من قرود السيرك الذين يقولون: "يجب أن نكون واقعيين، وأن لا نناطح الجبل بقرون من طين، لأن ذلك انتحار، وعلينا أن نقبل بالاستسلام لأمريكا و"اسرائيل"، حفاظاً على حياتنا ومصالحنا. إن ابرز هؤلاء هم "مارينز الإعلام" العرب، ومنهم من يطلق عليهم وصف ملتبس "الليبراليون الجدد"، لأنهم في الواقع مسوقو ومبرروا الإبادة الجماعية. البراغماتية الواقعية هذه تقذفنا آلاف السنين إلى الخلف، إلى مرحلة ما قبل الإنسانية، حينما كان الحيوان المسمى الآن "إنسان"، يعيش كما يعيش الخنزير البري أو الضبع، بلا قيم أو روادع، وهدفه غريزي صرف: حفظ البقاء.
الحضارة والتحضر، نقلت الإنسان تدريجياً من الحيوانية إلى الإنسانية، بعد أن علمته وزرعت في روحه وعقله طبيعة ثانية، مستندة على منظومة قيم عليا "روادع وموانع" حجْمت وقيدت الطبع الحيواني فينا، وجعلتنا نسمو فوق عالمنا الأصلي: عالم الحيوان ونؤسس عالماً جديداً، هو عالم الإنسان، والفرق بين العالمين هو ذاته الفرق بين "ضباع" و"خنازير" البراغماتية الواقعية، وحملة المبادئ والشهداء والمناضلين.
إن كتائب المارنيز العرب، في الإعلام والثقافة والسياسة، يعرفون تماماً انهم يرتدون نحو الحيوانية، بل إلى ما قبل الحيوانية، مستخدمين منطقاً تبريرياً دونياً، يدغدغ الغريزة ويهين العقل. إن الإنسان هو إنسان لأنه مقيد بقيم عليا، وحينما يتخلى عنها، تحت التهديد، يفقد إحساسه بالتميز، ويصبح، كالكلب، يتبع من يقدم له عظمة! وهؤلاء الذين يروجون لضرورة الاستسلام لقوة أمريكا، يريدون تدمير وتفكيك أعظم ما يمز الإنسان: الكرامة، فباسم غريزة البقاء يدافعون عن عهر الضمير، ويستخدمونه غطاء لبيع الوطن والدين والعرض، وكل هذه الأشياء تلخص بكلمة واحدة: الكرامة، والكرامة هي الموقف القيمي والاختيار الحر للتضحية من اجله.




تحقير الأيديولوجيا: لماذا؟


كل هؤلاء يتعمدون تحقير الأيديولوجيا، استناداً إلى فكرة صحيحة، في الإطار المنهجي، وهي أن المجتمع والإنسان والكون، اكبر بكثير من أي هدف، واعقد بكثير من أي فلسفة، لكن هذا الإنسان مضلل تماماً، فلئن كانت الدوغماتية، أي التمسك الأعمى بالقوالب الجاهزة، مرفوضة وخطرة على إنسانية الإنسان، لأنها تقيده أحياناً بأوهام، فإن في الأيديولوجيا رموز إنسانية الإنسان، وفي مقدمتها "منظومة القيم العليا"، التي تتشكل من الدين والوطنية وأفكار وضعية صاغها الإنسان بفضل تقدمه وخبرته.
لا يمكن للإنسان أن يبقى إنساناً، مكرماً من قبل الله، إلا إذا خضع لمنظومة قيم، لأن ذلك هو الذي يمنعه من الارتداد للحيوانية والسلوك الفاسد، وهنا يكمن بالضبط "سر" النزعة التحقيرية لدى الغربيين، ومارينز الإعلام العرب، للأيديولوجيا والمواقف الثابتة، القائمة على الدفاع، حتى الاستشهاد أو النصر، عن الوطن والدين والقيم العليا والحقوق، فإذا أقنعنا الفرد العربي، بأن مصلحته الأنانية تأتي قبل قدسية الدين والوطن والقيم العليا، وقدمنا له "عظمة" من "مطعم مكدونالد"، فإنه سيصبح جاهزاً لقبول الغزو الصهيو- أمريكي، دون مقاومة، بل سيعده "تحريراً"، كما فعل العملاء في العراق، الذين جاءوا مختبئين في أحذية جنود الصهيو- أمريكية ودمروا العراق، لأجل أن يرمى لهم بوش عظمة رفضت كلبته أكلها!
إن تحقير الفكر عموماً، والمبادئ خصوصاً لدى الآخر، هو أبرز "كتائب الجهاد المقدس" للمحافظين الجدد في أمريكا، فهم إيديولوجيون حتى نخاع العظم، ويستخدمون البراغماتية وسيلة لإفساد الآخر، أي نحن، كي تدمر قلاعنا الحصينة، وتخترق، عبر "خيول طروادة" العرب، ومع ذلك لا يرى من يتمتعون بقضم عظمة كلبة بوش، إن سادتهم إيديولوجيون! ولا يسألون: لماذا هم إيديولوجيون ويطلبون منا التخلي عن ديننا وقوميتنا؟




الجواب التاريخي

إن البراغماتية ليست فلسفة خاطئة فقط، بل هي ممارسة وضيعة، تسقط الإنسان في وحل سلوك الحيوانية وما قبلها، فالإنسان لم يصبح إنساناً إلا بفضل تطويره منظومة قيم، وحينما يتخلى عنها يرتد، لكنه بارتداده للحيوانية، وما قبلها، "يفقد الخيط والعصفور"، كما يقول المثل العراقي، أي انه يخرج من "مملكة الإنسان" لكنه لا يدخل "مملكة الحيوان" مجدداً، بل يدخل "مملكة عهر الضمير"، وهي مملكة يأكل فيها المخلوق ذاته كي يعيش، وهي أحط وأقذر ممالك المخلوقات. لذلك فالبراغماتية هي فلسفة وقوعية وليست واقعية.
لقد قدمت المقاومة الفلسطينية، الجواب التاريخي على مقولات مواطني مملكة عهر الضمير، بتأكيد أن الإنسان هو إنسان لأنه يقاوم الظلم ويرفض الانتساب لمملكة عهر الضمير. أما المقاومة العراقية فلم تكتف بما أكدته شقيقتها وتوأمها المقاومة الفلسطينية، بل تقدمت خطوة حضارية كبرى، وهي النجاح في خلخلة، وتدمير أسس مملكة (إمبراطورية) عهر الضمير، بتسجيل انتصارات حاسمة على قوات الاحتلال الصهيو - أمريكية في العراق وتمهيد الطريق لطردها قريباً جداً من العراق.
إن شهداء المقاومة العراقية ومقاتليها الأبطال قد أعادوا للإنسانية كلها، وليس للعرب والمسلمين فقط، إيمانهم بأن "مملكة الله" هي التي تنتصر في النهاية، ومن ثم فإن القيم العليا هي قرين انسانية الانسان وحافظتها، والحدود الحمر التي تبقى الإنسان في أحضان الوطن وقيمه، وتحفظ له استقامته. إن المعنى الحقيقي والجوهري للبراغماتية، في ضوء ما تقدم هو إخضاع كل شيء للذات، بكل عيوب الذات الخطاءة بطبيعتها، والقاصرة عن الإدراك الكلي، بامتداده عموديا وأفقيا، وبتعقيداته البنيوية، بصفته إدراكا لما يقع جوهره، أي الله وكل المشهد الميتافيزيقي، خارج نطاق إدراكنا ووعينا. فإذا كان الإنسان ناقصا بطبعه، كيف إذن تلجم الأنانية العمياء بغير الأيديولوجيا؟
هل تعلمون الآن لِم قلنا في السابق، قبل سنوات، إن البراغماتية هي "تفاحة الخطيئة" الأولى التي توقع الإنسان في فخ الشيطان حتماً؟

المصدر (http://www.al-moharer.net/moh210/s-mukhtar210.htm)