تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : حلب في تراثنا الأدبي والفني


أ. علي الحمادي
12-24-2008, 07:47 PM
قبل كل شيء أحببت أن أضيف هذا المقال لأستاذي الغالي السيد محمود فاخوري
والذين تتلمذوا على يد هذا العظيم يعرفون قدره
كان يعتبر مكتبة الأدب العربي في الآداب
أطال الله عمره
له مواقف عظيمة يشهد بها الجميع




حلب في تراثنا الأدبي والفني - محمود فاخوري(*)

يقول ياقوت الحموي:

"حلب مدينة عظيمة واسعة، كثيرة الخيرات، طيبة الهواء، صحيحة الأديم والماء... وشاهدت من حلب وأعمالها ما استَدْلَلْتُ به على أن الله تعالى خصّها بالبركة، وفضلها على جميع البلاد... وأما قلعتها فبها يُضرب المثل في الحسن والحصانة... وما زال فيها على قديم الزمان وحديثه أدباء وشعراء... وقد أكثر الشعراء من ذكرها ووصفها والحنين إليها(1)"

ذلك مجمل ما قاله ياقوت الحموي عن حلب في كتابه "معجم البلدان" وقد زارها وأقام فيها غير مرة. وليس هو الوحيد الذي أشاد بهذه المدينة ونوه بفضلها وجمال طبيعتها وأريحية أهلها، فهناك أقوال كثيرة مماثلة، للرحالة والجغرافيين العرب: كالمقدسي، وابن جبير، والحِمْيَريّ، وابن بطوطة، وغيرهم، ممن وصف "الشهباء" التي تعد من أقدم المدن العامرة في العالم، إن لم تكن أقدمها، ولا تزال حتى اليوم زاخرةً بالحياة، مزدهرةً بالحضارة والعمران، بعد أن مرّت بأحقاب متلاحقة منذ القرن العشرين قبل الميلاد، وعرفت أمماً شتى تعاقبت عليها، كما عرفت أمجاداً تليدة انتظم بها مجد الزمان، ومجد البطولات، ومجد الثراء، فهي ثغر قام على الحدود مع الروم، وهي ملتقى الطرق التجارية الكبرى لقوافل الشرق والغرب، ثم إنها مدينة الآثار والأسوار والأبراج، وهذا كله جعلها موئل العزة، ومورد الصفاء، فبقيت فتية الإهاب، محافظة على تراثها الثمين، وكنوزها الأوابد، وجلال أبنيتها القديمة حتى كادت تكون بهذه الخصائص والمزايا المدينة الوحيدة في الشرق العربي، وحظيت بإعجاب الرحالة والباحثين الغربيين الذين زاروها، أو أقاموا فيها منذ القرن السادس عشر للميلاد حتى القرن العشرين، نذكر منهم:

القيصر "فريدرك" البندقي (1563م)، ودار فيو "قنصل فرنسا في حلب عام 1683م" والسائح الفرنسي "دو رازكل" والمستشرق الألماني "نولدكه" والطبيب الألماني "بيشوف" الذي أقام في حلب وأعجب بها جداً، ووضع كتاباً عنها باللغة العربية، عنوانه "تحف الأنباء في تاريخ حلب الشهباء(2)"، والشاعر الرومانسي الفرنسي "لامارتين" الذي سكن في حي الكتاب منذ قرن ونصف تقريباً ونظم قصيدة يصف فيها فتاة حلبية تدخن نرجيلتها قرب بركة ماء. ولا ننسى أيضاً الإشارة إلى أن شكسبير ذكر حلب مرتين في شعره، كما ذكرها دانتي في الكوميديا الإلهية. وربما كان آخرهم المستشرق الفرنسي "جان سوفاجيه" المتوفى سنة 1950م والذي أقام في حلب مرة، ألف خلالها كتاب "الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب" وترجمه محمد أسعد طلس إلى اللغة العربية مع شهادات كثيرة أضافها إلى الكتاب(3).

على أن ازدهار حلب في العصور العربية الإسلامية إنما بدأ في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، "القرن العاشر للميلاد" حين استقل بها سيف الدولة الحمداني، وأقام إمارته فيها، فكان زين الرجال، ورافع لواء الجهاد، ومُعليَ صرح الشعر والأدب والفن في تلك المدينة الخالدة التي أعطت دنيا الفكر العربي ثروةً ثقافية وفنية عظيمة، بمن نبغ فيها من أساطين العلم والفلسفة، وعباقرة الشعر والأدب، وأوعية النحو واللغة، وبما زين رفوف مكتباتها العامة والخاصة من الأسفار القيمة، والدواوين النادرة، والمخطوطات النفيسة.

ومعظم الفضل في ذلك إنما يعود إلى ذلك الأمير النابه، والقائد الجريء، والشاعر الناقد، "سيف الدولة" الذي جعل "الشهباء" ملاذ العلماء، ومقصد الأدباء والشعراء، ومستقر أولي البحث والفن في عصره، فسنّ بذلك سنةً حميدةً في هذه المدينة، امتدت آثارها إلى ما بعد عصره، على امتداد القرون، واستطاع أن يجعل حلب بغداداً(4) ثانية، ومركزاً فكرياً مشعاً ينشر ضياءه في الآفاق، ويبدد حنا دس الجهل والركود.

ولم تصرفه الحروب المتواصلة مع الروم، وإصلاح الأسوار والحصون، عن تحقيق ما كان يواثبه من آمال في إحياء النهضة العقلية. وإيقاظ الحركة الأدبية في عاصمة إمارته. فجمع حوله كوكبة لامعة تنهض بذلك العبء، وفتح صدر مجالسه لطائفة صالحة من رجال الأدب والفكر والفن، ولصفوة مختارة من الكتاب والخطباء، ومن الفلاسفة والأطباء والندماء... كل أولئك هرعوا إليه من مختلف الأصقاع العربية والإسلامية، حتى قال الثعالبي في كتابه "يتيمة الدهر" "لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك-بعد الخلفاء-ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر، ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها(5)".

وهكذا جعل هذا الأمير الحمداني قصره-الذي بناه في "الحلبة" قُرب محلة الفيض بحلب-منتدىً أدبياً تعقد فيه المناظرات، ومجلس أنس تلقى فيه روائع الأشعار، وتسمع أجمل الأصوات والألحان، وزود قصره هذا بمكتبة ضخمة، تضم آلاف المجلدات من نوادر الأسفار والدواوين، لتكون مرجعاً له وللوافدين عليه، ولا يفتأ يغنيه بكل جديد، حتى إن أبا الفرج الأصفهاني لما ألف كتابه العظيم "الأغاني" بمجلداته الأربعة والعشرين، أهدى نسخةً منه إلى سيف الدولة، فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه لقلة المبلغ(6).

وبذلك كله، انقلب الركود الذي كان يَرينُ على حلب، نهضةً وازدهاراً لا مثيل لهما من قبل، واستطاع ذلك الرجل الفذ أن يجمع حوله في سنوات متقاربة نخبةً مصطفاة من نوابغ الأعلام في كل علم وفن.

فكان فيهم الشعراء: من أمثال المتنبي، والصنوبري، والسّريّ الرفّاء، وكشاجم، والببغاء، والوأواء الدمشقي، والأخوين الخالديين، وابن نباتة السعدي، وغيرهم.

وفيهم علماءُ اللغة والنحو، وعلى رأسهم:ابن جني، وأبو علي الفارسي، وأبو الطيب اللغوي، وابن خالويه.

ومن الكتاب والمنشئين: أبو الفرج السامري، وأبو محمد الفياص، وابن البازيار، وآخرون.

أما الأدباء فكان في مقدمتهم: أبو بكر الخوارزمي، وأبو الفرج الأصفهاني. هذا إلى عددٍ من الفلاسفة: كالفارابي، والقضاة، كأبي الفرج سلامة بن بحر، والمنجمين والفلكيين: كأبي القاسم الرقي، والمغنين: كالهنكري...

لقد وفد هؤلاء وغيرهم على سيف الدولة من أصقاع شتى، وانتظموا في عاصمة الدولة الحمدانية، وزينوا مجالس أميرها بآرائهم الناضجة، ونتاجهم الثقافي، فكانوا دعائم الحياة العلمية والأدبية في ظل سيف الدولة الذي كان غرة تلك المجالس في إثارته لمختلف القضايا، وتوجيه الحوار والمناقشة بما يرضي العلم والأدب، يرفده في ذلك ثقافة أصيلة، وذكاء وقاد، ولباقة آسرة، وحافظة جيدة، إضافة إلى ما نشأ عليه من شاعرية وموهبة نقدية.

وقد تنوعت المسائل والقضايا التي كانت تطرح في تلك المجالس، ولكن قد يغلب على بعضها طابع معين يطغى على غيره. فهناك ما يسمى "بالمجالس السياسية المصحوبة بالأبهة وإظهار الهيبة حين يأتي رسول الروم مفاوضاً".

وهناك ما يسمى "بمجالس المناظرة والعلم" بين اللغويين والنحويين والمتكلمين، ومجالس أخرى يمكن أن ندعوها "مجالس الشعر والأدب والنقد" وإلى مثلها أشار المتنبي بقوله مخاطباً سيف الدولة:

ولكنْ كلُّ شيءٍ فيه طيبٌ *** لديك من الدقيق إلى الجليل

وميدانُ الفصاحة والقوافي *** ومُمْتَحَنُ الفوارس والخيول(7)

وقد يكون للغناء والطرب مكانهما في مجلس الأمير الحمداني، فيوسم عندئذ بأنه "مجلس الأنس"، والأصل فيه رغبة سيف الدولة في سماع المغنين البارعين في فنهم، وترويح النفس من مشاغل الدولة، والاستمتاع بما هو رفيع من الموسيقا والألحان.

وقصة الفارابي-مخترع القانون-معروفة في مجلس سيف الدولة، رواها ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان(8) وخلاصتها أن الفارابي ورد على سيف الدولة في مجلس طرب، وهو لا يعرفه، وأخذ الفارابي يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس، في كل فن، حتى صمتوا. فصرفهم سيف الدولة، وأقبل على الفارابي يدعوه إلى الطعام، فالشراب، فالسماع... فامتنع، إلا عن السماع. وعندئذ أمر سيف الدولة بإحضار المغنين، فحضر كل ماهر في الصناعة بأنواع الآلات، فلم يحرك أحد منهم آلته الموسيقية إلا عابه الفارابي وقال له: أخطأت. ثم أخرج من وسطه عيداناً وركبها، ثم لعب بها، فأضحك كل من كان في المجلس، ثم غير تركيبها وضرب بها فأبكاهم جميعاً، وأخيراً ركبها على هيئة أخرى وراح يحركها، فناموا كلهم حتى البواب، فتركهم نياماً وخرج.

قال ابن خلكان: "ويحكى أن الآلة المسماة، القانون، من وضعه، وهو أول من ركبها هذا التركيب".

وبديهي أن ما حصل في ذلك المجلس لم يتم بنفس السرعة التي روى بها الخبر، وإنما احتاج ذلك إلى انقضاء بعض الوقت، كما يعلم ذلك من حضر أشباه هذه المجالس الفنية. ونحن لا يهمنا تفاصيل ذلك الخبر بمقدار ما يهمنا أصله وهيكله. وما له من دلالة على مجالس الأنس والطرب التي تضم المبدعين في هذا الباب، في رحاب قصر سيف الدولة.

على أن ما يُستملح من هذه الندوات والمجالس، على اختلاف صورها، ما كان يحصل فيها أحياناً من مفاجآت طريفة لم يحسب حسابها، يثيرها قدوم رجل طارئ على المجلس. ومن ذلك أن الشعراء كانوا ينشدون بين يدي سيف الدولة في مجلسه العامر بالقوم، فتقدم أعرابي رث الهيئة، فاستأذن الحجاب في الإنشاد، فآذنوا له، فأنشد هذه الأبيات:

أنت عليّ، وهذه حلبُ *** قد نَفِد الزادُ، وانتهى الطلبُ

بهذه تفخر البلاد، وبال- *** أمير تُزهى على الورى، العرب

وعبدك الدهرُ قد أضرَّ بنا *** إليك، من جور عبدك، الهربُ

فقال سيف الدولة: أحسنت، ولله أنت... وأمر له بمئتي دينار(9).

لقد كانت مجالس سيف الدولة، تلك، خيراً على الأدب العربي وعلوم العربية، بما أحيت من حركة أدبية ثقافية، وبمن استقدمت من نوابغ الرجال، ذوي العلوم المتنوعة، وبما أتاحت من فرص سانحة للشعراء، والكتاب والعلماء كي يظهروا مواهبهم الكامنة.

صحيح أن هذه الصحوة الأدبية والفكرية لم تعش-في ذاتها-طويلاً وصحيح أيضاً أن أساطين تلك الندوات والمجالس قد انفرط عقدهم فيما بعد، واصبح لكل وجهةٌ هو موليها... إلا أن الأهمية الكبرى لتلك البيئة السيفية كانت فيما تركته من آثار بعيدة المدى في أغراض الشعر وفنونه، وفي خصائصه وسماته، حتى بعد زوال إمارة الحمدانيين في حلب، إذ ما فتئ النوابغ يظهرون من حين إلى آخر: في الشعر والفقه، والطب، والحديث، والفلسفة.. حتى الموسيقا والفن ويكفي أن نرجع إلى كتاب "إعلام النبلاء" قرناً فقرناً، لنرى تفوق حلب على سائر مدن الشام في علمائها وأدبائها وشعرائها، وفي مدارسها التعليمية التي ترقى إلى مستوى كليات الجامعة، فضلاً عن مكتباتها العامة والخاصة، وحب أهل حلب للأدب والشعر والفن واقتناء الكتب، في كل عصر. وكأن النفوس جُبلت على الالتزام بسنة سيف الدولة، فتابعت حلب مسيرتها الثقافية والفنية، وبقيت إلى يومنا هذا مهد العلم والأدب والشعر والتاريخ، وملاذ الفن والموسيقا والغناء، حتى قال الشاعر القروي-وهو شاعرٌ مهجريّ خالط الرعيل الأول من المغتربين الحلبيين، وشهد بعض أسمارهم، وعاين بنفسه حبهم العجيب للموسيقا العربية الأصيلة، والألحان الأخاذة، ولا سيما حينما زار حلب-فقال كلمته الصادقة: "حيثما لقيت رجلاً حلبياً، فأنت إما مع فنان، وإما مع روحٍ تطرب للفن".

والحق أن حلب اشتهرت منذ القديم بغرام أبنائها بالموسيقا، منذ عهد سيف الدولة الحمداني، فضلاً عن الموسيقيات والمغنيات ممن غفل المؤرخون عن ذكرهن، أمثال "علوة" محبوبة البحتري، التي ذكرها كثيراً في شعره، وبقيت دارها معروفة بحلب حتى القرن الخامس للهجرة (ق11 م) أي بعد البحتري بقرنين من الزمن، إذ يقول ابن بطلان-وهو طبيب باحث من أهل بغداد-حينما مر بحلب سنة 440ه: "وفي وسط البلد دار علوة صاحبةِ البحتري".

وقد أنبتت حلب عدداً كبيراً من أعلام الموسيقا والتلحين والطرب، وما من بلدٍ عربي نال من الشهرة وبعد الصيت في فن الموسيقا ما نالته هذه المدينة، ولا سيما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين. وليس من فنان عربي حضر إلى مسارح حلب مغنياً أو عازفاً-قبل أن تكثر دور الخيالة، وتنتشر آلات الإذاعة والتلفزة-إلا كان يخفق فؤاده، ويحسب حساباً للقاء سكان حلب التي لا تهادن من يسمعها فناً متهافتاً أو غناءً رخيصاً، وحسبك بصالح عبد الحي، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، شواهد على ذلك، وهم من هم في الشهرة والمجد، وطول الباع في التلحين أو الغناء.

فمن أوائل ذوي الفن المتأخرين:" "محمد رحمون الأوسي" الذي عاش أربعة وتسعين عاماً 1771-1865م، وكان موسيقياً بارعاً، وملحناً مجيداً، وقد لحن 92 موشحاً، وتخرج على يديه نحو 750 تلميذاً، ويذكر معه أيضاً معاصره "مصطفى البشنك" الذي ولد في حلب سنة 1765م وكان نابغة في الموسيقا والأنغام، وقد لحن نحو 200 موشح، ومعظم الموشحات المعروفة عند الناس اليوم هي من تلحينه. ومما يجدر ذكره أنه جعل القاعة المعروفة ب- "قاعة بيت مشمشان" نادياً موسيقياً يقصده طلاب هذا الفن، وتقام فيه حفلات الطرب والغناء، والرقص الشرقي الأصيل(10).

ولم تكن هذه القاعة هي الوحيدة في تلك المدينة، وإنما كان كثير من ذوي الجاه والغنى فيها يهتمون بشؤون الطرب والأفراح، ويشيدون في بيوتهم قاعاتٍ رحبة، ويقيمون في ساحاتها سدة مرتفعة، لفرق المطربين، بعد أن شاعت الموشحات، والقدود الحلبية، والمواويل العذبة التي يشيع فيها الغزل العفيف، والمعاني الشريفة. "وكان فصل "اسق العطاش" في طليعة الفصول المطربة، التي أحلها الحلبيون مقاماً عالياً في عالم الفن والموسيقا" وقد فصل القول فيه عبد الله يوركي حلاق في كتابه "حلبيات" وعرفه بأنه "مجموعة بديعة نادرة من الأناشيد والقصائد والموشحات والتحميلات، والأدوار المتنوعة الأوزان والقوافي، والمتعددة النغمات والأصول والتقاسيم(11)".

هذا إلى أنواع من الرقص الأصيل البعيد عن الخلاعة والمجون، ولا سيما رقص السماح الذي يشتمل على ضروب كثيرة مختلفة من الخطوات الفنية، والموشحات الغنائية الخلابة. ومبتكره هو الشيخ عقيل المنبجي المتوفى سنة (550ه- 1155م) والمدفون في منبج(12) ومن موسيقييّ حلب الذين اشتهروا في القرن التاسع عشر "أحمد عقيل" المولود سنة 1813م "وكان ملحناً حسن الصوت، كما كان منشداً في الأذكار والتكايا التي كان عددها في ذلك الحين نحواً من أربعين تكية". وكان قد تعرف إلى موسيقيين أتراك، وأخذ من فنونهم ومزجها بالألحان العربية وقد اجتمع به بعض فناني مصر عندما حضروا إلى حلب وعملوا في مسارحها، وكانت فرصة سانحة لهم للتأثر والاقتباس حتى إن أبا خليل القباني الدمشقي أخذ عنه فن الموشحات وأصول رقص السماح. وكان من تلامذته أيضاً زوجة قنصل إيطاليا في حلب آنذاك، وقد اعترفت بأنه يقل نظيره في هذا الفن حتى في أوربة. وقد توفي سنة 1913م بعد أن بلغ المئة من عمره(13).

واشتهر في حلب، في تلك المرحلة أيضاً "مصطفى المعضم" الذي عاش مئة سنة 1829-1929م وكان موسيقياً بارعاً، أخذ عن مصطفى البشْنَك، كما كان هو أستاذاً لعمر البطش(14).

ومن الموسيقيين الحلبيين الذين طبقت شهرتهم الآفاق، رجال من أسرة "الشوا" نبغوا في العزف على بعض الآلات الموسيقية ولا سيما الكمان، وأولهم "عبود الشوا" الذي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأخوه " أنطون الشّوا المتوفى سنة 1914م، وقد لقب بأمير الكمان، واشتهر في الوطن العربي ولا سيما مصر التي أقام فيها زمناً. وكان لأنطون ثلاثة أولاد موسيقيين هم: سامي، وعبد الكريم، وفاضل، وأبرعهم "سامي" الذي لم يكن في زمانه عازف على الكمان أمهر منه. وقد نزح إلى مصر وتوفي فيها سنة 1996م عن عمر يناهز الحادية والثمانين(15).

ونذكر أيضاً موسيقياً آخر هو "كميل شمير" العازف المشهور على البيانو، والملحن الذي صنع كثيراً من الألحان المسرحية والأوبريتات. وقد توفي سنة 1934م ولم يتجاوز الثانية والأربعين من عمره(16)، وكان لوفاته رنة حزنٍ وأسى، وقد رثاه صديقه الشاعر عمر أبو ريشة بقصيدة طويلة عنوانها "مصرع الفنان"، وأولها:

نام عن كأسه وعن أحبابهْ

قبل أن ينقضي نهارُ شبابهْ

بسماتُ الرضى على شفتيه

وشتاتُ الرؤى على أهدابه

وبناتُ الغروب تسكب في أُذنيه

أصداءَ عودِه وربَابهِ(17)

ويلاحظ أن بعض أولئك الموسيقيين والملحنين قد عمروا، أو امتد بهم الأجل إلى القرن العشرين، الذي شهد كوكبة أخرى رفعت لواء الفن، وتابعت هذه المسيرة الأصيلة وكأنها تريد أن يبقى لحلب طابعها المتألق، وعراقتها الراسخة، وهويتها المتميزة، التي دفعت عدداً من أقطاب هذا الفن في مصر إلى أن يزوروا حلب في العقدين: الأول والثاني من القرن العشرين، ويتأثروا جداً بالموسيقا الحلبية وأنغامها، وبقدودها وموشحاتها، وعلى رأسهم الشيخ سلامة حجازي، وسيد درويش. بل إن هذا التأثر امتد بقوته إلى أعلام آخرين في مصر، مثل عبده الحمولي مجدد شباب الغناء العربي، فقد كان حسن الصوت جداً، وتصرف بصناعته تصرفاً عجيباً حتى عد من أصحاب الابتداع والاختراع في هذا الفن، بعد أن تأثر بالطريقة الحلبية التي نقلها إلى مصر بعض الحلبيين من قبل، في المئة الأولى بعد الألف للهجرة، وتلقاها عنهم بعض المحترفين من المصريين، ونخص بالذكر رجلاً حلبياً اسمه "شاكر أفندي" الذي نقل إلى القاهرة عدة تواشيح مع بعض القدود حيث كان فن الألحان مجهولاً هناك في تلك الحقبة(18).

ولابد من الإشارة في هذا المقام إلى أن الفن الحلبي قد تطعم بالموسيقا التركية في التطوير وإحكام الصناعة، لأن حلب أقرب البلاد العربية إلى تركيا، ولأن الأتراك قد عنوا منذ منتصف القرن التاسع عشر بالموسيقا عنايةً علميةً وطيدة الأركان، فأسسوا معهداً رسمياً للموسيقا في استنبول اسمه "دار الألحان"، ولكن ذلك لم يمنع أن يكون لحلب أسلوب خاص في التلحين والموسيقا انفردت به وحدها دون سائر الأقطار العربية(19).

أما أعلام الموسيقا في حلب، في النصف الأول من القرن العشرين، فعددهم كثير، ويحتاجون إلى بحثٍ خاص يُفرد لهم، ونكتفي منهم بذكر عمر البطش، وعلي الدرويش، وأحمد الأبري، وتوفيق الصباغ، وأحمد الفقش، ومجدي العقيلي، وأعقبهم، بل واصل العمل معهم وبعدهم حتى اليوم، سلسلة متصلة من البارعين في التلحين والتوشيح، والأدوار والقدود وفي علم النغمة والإيقاع، من أمثال عبد القادر حجار، ومحمد خيري، ومصطفى ماهر، وأحمد نهاد العزا، وهاشم قصة، وفؤاد رجائي وصبري مذلل، وصباح فخري، وعبد الرحمن جبقجي، ومحي الدين أحمد، وقدري دلال وعمر سرميني وماجد العمري وغيرهم.

ذلك كله، على إيجازه واختصاره، قوي الدلالة على رسوخ مدينة حلب في حلبتي الفن والأدب معاً، تذكر معهما ويذكران معها، في القديم والحديث، وعلى ألسنة الباحثين والمؤرخين، وأقلام الأدباء والشعراء. في المشرق والمغرب، وفي الوطن والمهجر. ونسوق هنا شاهداً واحداً من قصيدة رائعة ألقاها الشاعر المهجري "زكي قنصل" في حلب سنة 1986 واستمعنا إليه يؤمئذ وهو ينشدها، نشوان طرباً، ومطلعها:

ناجيتُ طيفكِ، في الأحلام، يا حلب

فهزني في هواكِ الزهو والطربُ

وفيها يقول مخاطباً أبناء حلب:

لم أدر لما أحاطتني بشاشتكم *** كيف اقتفتْ أثري الأزهارُ والشُّهب

ورنّ في أذني، لما سمعتكمُ، *** هديل "سامي" فأين العود والقصبُ؟

ولاح لي "عمرٌ" في كل قافية *** قطَّرْتموها رحيقاً للألى شربوا(20)

حلفتُ لولا هوى شاميةٍ نزلت *** هُدْبي، وتحسُدكَ الأهدابُ يا هُدُبُ

لقلتُ: تيهوا على الدنيا بجنّتكم *** فقد تواءمَ فيها الفنّ والأدب

وختم زكي قنصل قصيدته بقوله:

ولدتُ بالأمس في بيتي وعائلتي

واليومَ أولدُ حيث المجدُ والأدبُ

أجل، إن حلب مدينة المجد والأدب قبلاً، ومدينة الفن والأدب من بعد، وسجلها حافل بالأعلام البارزين في هذا وذاك، كما أن لهذه المدينة مكانةً خاصة في شعرنا العربي، على توالي العصور، فكم تغنى بها الشعراء، وفتنوا بجمال طبيعتها، وطيب هوائها، ومجالي حسنها، هي ومتنزهاتها المحيطة بها.

ومن الشعراء القدامى الذين كان لحلب في شعرهم نصيبٌ واضح، "البحتري" شاعرٌ "منبج"، القريبة من حلب، وصاحبُ "علوة" الحلبية التي ذكرها في شعره كثيراً، وكانت من أشهر المغنيات في حلب. ومن ذلك قوله:

أقام كلُّ مُلثِ الوَدْق رجّاس

على ديارٍ بعُلْوِ "الشام" أدراسِ

فيها لعلوةَ مصطاف ومرتبَعٌ

من "بانَقُوسا" و"بابِلَّى" و"بطْياس"

منازلٌ أنكرتنا بعد معرفةٍ

وأوحشتْ من هوانا بعدَ إيناسِ

هل من سبيلٍ إلى الظُهران من "حلبٍ"

ونشوةٍ بين ذاك الوردِ والآسِ؟(21)

ويكثر شعراء حلب، أو الوافدون عليها أيامَ سيف الدولة وازدهار مجالسه الأدبية، ويقترن في أشعارهم ذكر حلب بسيف الدولة مرةً، ويستقل عنه أخرى. فالمتنبي أقام في حلب تسع سنوات في كنف الأمير الحمداني، وذكرها في شعره مراراً، لكن أشهر ما قاله فيها بعد مغادرته إياها، وهو بالكوفة، قصيدةٌ بعث بها إلى سيف الدولة يمدحه ويشيد ببطولاته أمام الروم، إثر دعوةٍ تلقاها من الأمير، بعد مفارقة المتنبي لكافور سنة 352ه، ومن تلك القصيدة قوله:

وكثيرٌ من السؤالِ اشتياقٌ *** وكثيرٌ من رده تعليلُ

لا أقمنا على مكانٍ، وإن طاب، ولا يمكن المكان الرحيلُ

كلما رحبت بنا الروض قلنا *** حلبٌ قصدُنا، وأنتِ السبيلُ

فيكِ مرعى جيادنا والمطايا، *** وإليها وجيفُنا والذميل(22)

وعندما بنى سيف الدولة سور حلب، وقام بعمارته، قال شاعره "السري الرفاء" يذكر ذلك ويشيد به:

إن تَعْمُرِ السورَ، أو تُهملْ عمارتَه *** فإنه بكَ-ما عُمرت-معموُر

لله سورٌ على الأيام يكلؤُه *** وأنتَ لا شك، فيه، ذلك السور

حميته برماح الخطّ مُشْرَعةً *** وكلُّ حِصنٍ، سوى أطرافها، زُور(23)

وآخرُ من شعراء سيف الدولة-وهو كُشاجِمُ الرّملي-وصف في إحدى قصائده جمال الطبيعة في حلب، ومتنزهاتها، وما تركته يدُ الغيث فيها من آثار تجلت في ما صاغه بطنُ الأرض لظهرها من أنواع النبات، ولا سيما النرجس وشقائق النعمان، ونهر قويق يتهادى في مسيره (يومئذ) ويمد الأنجاد والوهاد بفيض مياهه، والسحائب تسكب أمطارها فتحيي الأرض بعد مواتها. يقول كشاجم:

أرتكَ يد الغيث آثارها *** وأعلنت الأرض أسرارها

فما تقع العينُ إلا على *** رياضٍ تُصنِف نُوّارَها

يفتح فيها نسيمُ الصبا *** جناها، فيهتِكُ أستارها

ويسفح فيها دماءَ الشقيق *** إذا ظلّ يفتضّ أبكارها

تُغَضّ لنرجسها أعينٌ *** وطوراً تحدّق أبصارَها

وما أمتعتْ جارها بلدةٌ *** كما أمتعتْ حلبٌ جارها

هي الخلد، تجمع ما تشتهي *** فزُرها، فطوبى لمن زارها

إذا ما استمدّ "قويق" السما *** بها-فأمدّته-أمطارها

وأقبلَ ينظم أنجادها *** بفيض المياهِ، وأغوارها

ودار بأكنافها دورةً، *** ينسي الأوائل تذكارها(24)

على أن صورة حلب، بمرابعها الخضر، وطبيعتها الأخاذة، وقلعتها الشامخة، لا تتجلى في شعر أي شاعرٍ تجليها في قصائد أبي بكرٍ الصنوبري، شاعر الرياض والبساتين، والذي أغرم بالطبيعة غراماً عجيباً لا نجده عند غيره.

وقد أطلق على قصائده اسم "الروضيات" لكثرتها في ديوانه الذي يبدو وكأنه بستان تتمايل أغصانه بالثمر، وتهتز نباتاته بالنور والزهر.

وقد وصف حلب وبساتينها ومتنزهاتها ونباتاتها ومياهها وقنواتها، وأطال النظر في قلعتها ومسجدها الجامع، وأثنى على أهلها وكرم أرومتهم.

ولم يكتف بذلك كله، بل عرج على قراها وضواحيها وسماها بأسمائها مثل: بانقوسا، وبابلى "باب الله" والحوش، والراموسة، وبركة التل، وغيرها. وله في ذلك قصائد ومقطعات كثيرة، أطولها قصيدة تقع في 104 أبيات أعجب بها ياقوت الحموي، فأوردها كلها في كتابه "معجم البلدان" مستغنياً بها عن غيرها، وقد مهّد ياقوت لها بقوله عن حلب: "وقد أكثر الشعراء من ذكرها، ووصفها، والحنين إليها، وأن أقتنع من ذلك بقصيدةٍ لأبي بكر (محمد بن الحسن بن مرار) الصنوبري، وقد أجاد فيها، ووصف متنزهاتها وقُراها القريبة منها.." ومطلعها:

احبسا العيس احباسها *** وسلا الدار سلاها

واسألا: أين ظباءُ ال- *** دار، أم أين مهاها

ومنها قوله:

بانقوساها، بها باهى المُباهي حين باهى

وبباصَفْرا، وبابلى رنا مثلي، وتاها

بين نهرٍ وقناةٍ قد تلته، وتلاها

ومجاري برَكٍ، يجلو همومي مجتلاها

*

حلبٌ بدرُ دُجىً، أنجمُها الزُهْرُ قُراها

حبذا جامعُها الجامعُ للنفس تُقاها

ومراقي منبرٍ، أعظمُ شيءٍ مُرتقاها

وذُرى مئذنةٍ طالت، ذُرى النجم ذُراها

أنا أحمي حلباً داراً، وأحمي مَن حَماها

أيُّ حُسٍن، ما حوَتْه حلبٌ، أو ما حواها

سَرْوها الداني كما تدنو فتاةٌ من فتاها

آسُها الثاني القُدودَ الهيفَ، لما أنْ ثناها

نخلُها، زيتونها، أوْ لا، فأرطاها، غضاها

*

فاخري، يا حلبُ المُدْنَ، يَزدْ جاهُكِ جاها

إنه إن تكن المُدْنُ رخاخاً، كنتِ شاها(25)

وتتوالى السّنون، وتبقى لحلب مكانتها في نفوس الأدباء والشعراء، وكل منهم يُشيد بها، ويعلي من قدرها، ويقدس ترابها ويتحدث عن نهرها "قويق" أيام كان له شأن يذكر. فهذا أبو العلاء المعري يقول:

يا شاكيَ النُّوَب، انهض طالباً حلباً

نهوض مُضنىً، لحسْم الداء ملتمس

واخلع حذاءك، إن حاذَيْتَها، ورَعاً

كنعل موسى، كليم الله، في القُدس(26)

ويقول في قصيدة أخرى، مكبراً من شأن حلب ونهر قويق:

حلبٌ للوليّ جنّةُ عدْنٍ

وهي للغادرينَ نارُ سعيرِ

والعظيمُ العظيمُ يكبرُ في عَيْ

نَيْهِ منها قَدْرُ الصغيرِ الصغيرِ

"فقُويقٌ" في أعْيُن القوم بحرٌ

وحصاةٌ منه نظيرُ "ثبير"(27)

وقد ينزل شاعرٌ في مدينة حلب ويطوف في جنباتها، ويمتع طرفه بمحاس طبيعتها، ويجد الأنس في صحبة أهلها ومعاشرتهم، ثم يغادرها بعد مدة عائداً إلى وطنه، وكان بوده لو يطيل المكث فيها، فتعمرُ نفسه بأطيب الذكريات، ويدعو للمدينة وأهلها بالخصب والخير العميم. وهذا ما يتبين لنا من قصيدة للشاعر محمد بن سليمان التلمساني، المعروف بالشاب الظريف، ويقال له أيضاً "ابن العفيف" وهو من شعراء العصر المملوكي، توفي سنة 688ه- / 289م. ومطلع قصيدته:

لا غَرْوَ، إن هزّ عِطْفي نحوكَ الطربُ

قد قام حسنُكَ عن عذري بما يجبُ

وقد ختمها بهذه الأبيات الأربعة الجميلة، يدعو فيها لحلب بالسقيا وقد ملأ نفسه ما آنسه لدى سكانها من جُودٍ وحسبٍ ومودةّ خالصة:

أقول، والبارقُ العلويّ مبتسم

والرّيح معتلّةٌ، والغيث منسكبُ:

إذا سقى حلبٌ من مُزنِ غاديةٍ

أرضاً، فخصَّتْ بأوفى قَطْرِه "حلبُ"

أرضٌ، إذا قلتَ: مَن سكانُ أربعها؟

أجابك الأشرفانِ: الجودُ والحسَبُ

قومٌ، إذا زُرتَهم أصفَوْكَ ودَّهمُ،

كأنما لك أمٌّ، منهمُ، وأبُ(28)

وربما أرسل الشاعر التحية، من بُعدٍ، إلى حلب، مفضلاً إياها على سائر المدن، حتى دمشق، ونهرها على سائر الأنهار، حتى بردى، ودجلةَ والنيل. وكذلك يكون الشوقُ والحنين إذا استبدا بالنفس، وأخذا بمجامع الفؤاد. وهذا ما نقرؤه في قول أبي نصر الخُضري الحلبي:

يا حلباً، حُييت من مصرِ *** وجاد مغناكِ حيا القطرْ

أصبحتُ في "جلّقَ حَرّانَ من *** وجدٍ إلى مربعك النضْر

ما بردى عندي، ولا دجلةٌ *** ولا مجاري النيل من مصر

أحسنُ مرأىً من قُويقٍ إذا *** أقبلَ في المدّ وفي الجزْر

يا أسفا منه على جرعةٍ *** تبلّ مني غُلّة الصدر(29)

وفي قول أبي العباس الصفدي متشوقاً إلى حلب وهو بدمشق:

من مبلغ "حلبَ" السلامَ مضاعفاً *** من مغرمٍ في ذاك أعظمُ حاجهِ

أضحى مقيماً في دمشق، يرى بها *** عذْبَ الشراب، من الأسى، كأجاجه(30)

أما قلعة حلب فقد كتب عنها ووصفها عددٌ من الرحالة الجغرافيين العرب، ونكتفي من كتاباتهم بما قاله ابن جبير حين زار حلب:

"لها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، معدومة الشبه والنظير في القلاع، تنزهت حصانةً أن تُرام أو تستطاع. قاعدة كبيرة، ومائدة من الأرض مستديرة، منحوتة الأرجاء، موضوعة على نسبةِ اعتدال واستواء، فسبحان من أحكم تقديرها وتدبيرها، وأبدع-كيف شاء-تصويرها وتدويرها عتيقة في الأزل حديثة وإن لم تزل، قد طاولت الأيام والأعوام، وشيعت الخواصّ والعوامّ".

وقال فيها الأخوان الخالديان، وهما من شعراء سيف الدولة:

وقلعةٍ عانق "العَيُّوقَ" سافِلُها

وجاز منطقةَ الجوزاءِ عاليها

يُعدّ من أنجم الأفلاك مَرقَبُها

لو أنه كان يجري في مجاريها

على ذُرى شامخٍ وعرٍ، قد امتلأت

كبراً به، وهو مملوءٌ بها تيها

ردت مكايد أملاكٍ مكايدُها

وقصّرت بدواهيهم دواهيها(31)

وكان المؤرخ العلامة "محمد أمين المحبّي"-الذي عاش في القرن الحادي عشر للهجرة

(ق 17 م)-معجباً بمدينة حلب من جهة، وبقلعتها من جهة أخرى، ويحسن بنا في هذا المقام أن نقتطف بعض كلامه الذي تحلى بالبلاغة، وحظي من سحر البيان بنصيب وافر، وإن كانت كتابته مزينة بالصنعة البديعية، كما هو الشأن لدى أدباء عصره. قال أولاً في حلب وأهلها: "هي البلدة الطيبة الماء والهواء، التي توافقت على حُسن بنائها ولطف أبنائها الأهواء. حياها الله تحيةً تنحط بالخصب سيولها، وتجرُّ باللطف على سرحة الرياض ذيولها... ولأهلها من عهد بني حمدان-أمراء الكلام-اعتلاقٌ بالأدب وارتباط، وتفوق فيه يدعو إلى حسد واغتباط. ولشعرهم في القلوب مكانة، كأنما شيدوا بأهواء القلوب أركانه..."

ثم قال في قلعة حلب، وقد أدهشه علوها الذي صافح النجوم، وخندقها الذي أحاط بها إحاطة السوار بالمعصم: "وهناك الحصن الذي عانق السماك، يكاد أهله يقتطفون نرجس الكواكب من فلك الأفلاك... وقد أحاط به الخندق إحاطة الهالة بالقمر،والسوار بالمعصم(32)".

*

تلك لمحات عن "حلب" لعلها تكون كافية في هذا الحيز من الصفحات. والحق أننا لم نتقصَّ كل ما قيل في هذا الموضوع-ولدينا منه الكثير-ولو أننا جمعنا كل ما قيل في حلب وقلعتها وأوابدها، وفي متنزهاتها وجمال طبيعتها، لكان بين أيدينا ديوان شعري ضخم، فضلاً عما دبجته في ذلك أقلام الكتاب من الأدباء والباحثين والمؤلفين.

ولا يقتصر الأمر في تلك القصائد الشعرية، والنصوص النثرية على القدماء، ممن ذكرناهم-أو لم نذكرهم-في هذا البحث، وإنما يتعداهم إلى المعاصرين، ولا سيما الشعراء الذين خصوا حلب وقلعتها وأهلها بقصائد ومقطوعات عصماء، داخل الوطن العربي وخارجه، ونذكر منهم على سبيل المثال: محمد الهراوي، ومحمد مصطفى الماحي، وخليل مطران، وعادل الغضبان، ومحمد عبد الغني حسن (من مصر). وقيصر المعلوف، وشبلي الملاط، والأخطل الصغير (من لبنان). وهند هارون، وحنا الطباع، وخليل الهنداوي، وعبد الله يوركي حلاق (من سورية) وزكي قنصل (من المهجر).

ونكتفي من شعر المعاصرين بأبيات من قصيدة "الأخطل الصغير" التي ألقاها في حلب، في حفل أقيم لتكريمه في شهر تشرين الأول سنة 1935، وهي قصيدة أجمع سامعوها وقراؤها على روعتها والإعجاب بها، ويزيدها تقادم الزمان جدةً وحداثة والشاعر يخاطب نفسه في مطلعها قائلاً:

نفيتَ عنك العلا والظرفَ والأدبا

- وإن خلقت لها-إن لم تزُر "حلبا"

ومنها هذه الأبيات:

شهباء، لو كانت الأحلام كأسَ طِلا

في راحة الفجر، كنتِ الزهرَ والحببا

أو كان لليّل أن يختار حِلْيتَه

وقد طلعتِ عليه-لا زدَرى الشُّهبا

لو ألّف المجدُ سِفراً عن مفاخرِه

لراح يكتب في عنوانه "حلبا"

لو أنصفَ العربُ الأحرارُ نهضتهم

لشيدوا لكِ، في ساحاتها، النُّصبا

لكن خُلقتِ لأمرٍ ليس يدركه

من يعشقُ الذلّ، أو من يَعبدُ الرُّتبا

ملاعبُ الصيدِ من "حمدانَ" ما نَسلُوا

إلا الأهلّةَ، والأشبالَ، والقُضبا

الخالعين على الأوطان بهجتَها

الرافعين على أرماحها القَصَبا

حُسامهم ما نَبا في وجه من ضَربوا

ومُهْرُهم ما كبَا في إثرِ مَن هربا

ما جرّد الدهرُ سيفاً مثل "سيفهمُ"

يُجري به الدمَ، أو يُجري به الذهبَا

ربُّ القوافي على الإطلاق شاعرهم

الخلدُ والمجد في آفاقهِ اصطحب

سيفان في قبضة "الشهباء" لا ثُلما

وقد شرَّفا العُربَ، بل قد شرَّفا الأدبا

وجاء في خاتمة القصيدة قوله:

أتُسْعِدُ الروضةُ الخضراءُ بُلبلها

حتى يفي الروضةَ "الشهباءَ" ما وجبا؟

تيِهاً "عروسةَ سوريا" فقد حَملتْ

لكِ القوافي، على راياتها، الغلبا(33)

المصادر والمراجع

1-الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب: محمد اسعد طلس-دمشق 1375 ه/ 1956م.

2-تحفة الأنباء في تاريخ حلب الشهباء: تيودور بيشوف-بيروت 1880م.

3-حلبيات: عبد الله يوركي حلاق-حلب 1983م

4-خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: محمد أمين المحي-دار صادر بيروت (د.ت).

5-الدرّ المنتخب في تاريخ مملكة حلب: ينسب إلى ابن الشحنة ت حلب 1404ه/ 1984م.

6-ديوان الخالديين: تح. سامي الدهان-دمشق 1388ه- / 1969م.

7-ديوان السري الرفاء: القاهرة 1355ه.

8-ديوان الشاب الظريف، تخ شكر هادي شكر-النجف الأشرف 1387ه- 1967م.

9-ديوان عمر أبو ريشة: المجلد الأول-بيروت 1971م

10-ديوان كشاجم: بيروت، المطبعة الأنسية 1313ه-

11-سقط الزند: أبو العلاء المعري-بيروت 400ه/ 1980م

12-سيف الدولة وعصر الحمدانيين: سامي الكيالي-مصر 1959م.

13-العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب: ناصيف اليازجي-طبقة مصورة (د.ت).

14-مجلة "العمران" س 2/ع (20، 21، 22): 1967م.

15-وفيات الأعيان: ابن خلكان-تح. إحساس عباس-بيروت 1968م.

16-يتيمة الدهر: أبو منصور الثعالبي-تح. محمد محي الدين عبد الحميد-القاهرة 1375ه- / 1956م.

________________________________________

(* ) أديب وباحث من سورية

(1) معجم البلدان: "حلب".

(2) طبع كتابه هذا في المطبعة الأدبية في بيروت سنة 1880م ويقع في 163 صفحة. ثم طبع ثانية في دمشق سنة 1992م بتحقيق شوقي شعث وفالح بكور.

(3) طبع في مطبعة الترقي بدمشق سنة 13 75 ه/ 1956م ويقع في 390 صفحة، وهو مزود في آخره بعددٍ وافر من الصور والمخططات والألواح.

(4) لا تمنع "بغداد" هنا من الصرف لأن المراد بها "مدينة أخرى تشبه بغداد" وليست "بغداد" نفسها.

(5) يتيمة الدهر للثعالبي 1 / 27-28.

(6) الظر تفصيل الكلام على ذلك كله في كتاب: "سيف الدولة وعصر الحمدانيين" لسامي الكيالي ولا سيما الصفحات 71-79.

(7) العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، لليازجي ص 356-357.

(8) وفيات الأعيان لابن خلكان 5 / 155.

(9) وفيات الأعيان 3/ 404 والجدير بالذكر أن سيف الدولة كانت له دنانير خاصة به تسمى دنانير الصلاة، وهي دنانير كبيرة الحجم كان سيف الدولة قد أمر بضربها لإهدائها في الأعياد والمناسبات المختلفة، ويزن الواحد منها عشرة أضعاف الدينار العادي الذي يعادل 4،5 غ تقريباً.

(10) قاعة مشمان كانت منذ نحو قرنٍ ونصف ويدرس فيها فنّ الموسيقا: الموسيقار مشمشان. انظر تفصيل الكلام على ذلك كله في مجلة "العمران" ع (20، 21، 22) ص 280-288.

(11) كتاب "حلبيات" لعبد الله يوركي حلاق ص 168.

(12) تجد تفصيل الكلام على "رقص السماح" في كتاب "حلبيات" 176-182.

(13) كتاب "حلبيات" 187.

(14) مجلة العمران ص 284 ووردت شهرته محرفةً ثمة.

(15) فصل الكلام عليهم صاحب كتاب حلبيات 184-187

(16) كتاب حلبيات 189.

(17) انظر القصيدة كاملة في "ديوان عمر أبو ريشة" 1/ 421-433

(18) مجلة العمران، ص 282.

(19) مجلة العمران، ص 284.

(20) سامي: يعني سامي الشوا، وعمر: هو عمر أبو ريشة، وكلاهما من أعلام حلب في العصر الحديث.

(21) المُلِثّ والورق: من أسماء المطر. والرجاس: السحاب ذو الرعد-والأدراس: المندرسة. بابلى (باب الله) وربانقوسا وبطياس: من أحياء حلب في الأطراف. والثالث لا وجود له اليوم. الظهران: الأماكن المرتفعة المحيطة بحلب.

(22) العرف الطيب 457-458 والرد: الجواب. تعليل: تطييب للسائل. أنت: خطاب للرياض. إليها: إلى حلب الوجيف والذميل: نوعان من سير الإبل أو الخيل.

(23) ديوان السري الرفاء ص 103.

(24) ديوان كشاجم ص 65.

(25) الثاني: اسم فاعل من ثنى يثني بمعنى مال وعطف. والهيف: جمع أهيف وهو الدقيق الخصر. والأرطي والغضا: نوعان من الشجر. والرخاخ: جمع رخّ، والرخّ والشاه: قطعتان من قطع الشطرنج.

(26) الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب 154 وكتاب "حلبيات" ص 37.

(27) سقط الزند للمعري 72 وثبير: جبل بمكة يوصف بالعلو والارتفاع.

(28) ديوان الشاب الظريف 37 وحلب الأولى في البيت الثاني: ماء المزن. وحلب الثانية: اسم المدينة المعروفة.

(29) الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب 153

(30) الدر المنتخب 154.

(31) ديوان الخالديين، ص 165، والعيوق: اسم نجم في السماء. والمرقب: موضع المراقبة كالبرج ونحوه. والأملاك: الملوك.

(32) خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، للمحيي-والسماك: نجم في السماء، وهما سماكان: الرامح والأعزل.

(33) القصيدة في ديوان "الهوى والشباب" للأخطل الصغير، وكتاب "حلبيات" ص 39-40.

مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 103 السنة السادسة والعشرون - ايلول 2006 - رمضان 1427

عبد العزيز الجفان
12-24-2008, 09:40 PM
بداية ارسل تحية الى افضل من درسني ودرس اجيال قبلي
لابعدي لاني اخر من درسه المكتبة المتنقلة الاستاذ محمود فاخوري
امدالله في عمره وادام عليه الصحة والعافية
ثم الشكر موصول لك اخي الكريم الاستاذ علي
على هذا الاختيار الرائع
وكما يقال ( الاختيار ضرب من التاليف )

حمزة العثمان
12-24-2008, 10:13 PM
المقالة كثيرة الفائدة ، وأفكارها شديدة الأهمية،و الحقيقة معلوماتي عن مدينة حلب ،ضحلة ،سوى بعض المعلومات التاريخية.
ورغم أني أقضي وقتا طويلا في حلب ، لم تسنح لي الفرصة لزيارة معالمها أو التجوال فيها.
وبالله التوفيق أسعى لذلك.
أستاذ علي حمادة :تقبل مروري.

أ. علي الحمادي
12-25-2008, 04:28 PM
السيد المتنبي
والسيد حمزة العثمان
شكراً لمروركم على الموضوع
وهناك أمران :الأول هو بحق الأستاذ بأنه مهما كتبنا عنه لن نفيه حقه
لكن نقول كلمة صغيرة: " هو بكل اختصار جبل علم متحرك"
والأمر الثاني بخصوص المقال:
أن الأستاذ محمود فاخوري قد تعب في جمع هذه المعلومات القيمة
وكما تلاحظون هي تتطلب قراءة في مختلف العصور ليقدم لنا
فكرة وافية شاملة عن عراقة حلب في الفن والأدب
وأقول:
لنا الفخر أن تخرجنا من جامعتها
وعايشنا فنها وأدبها
ورغم كل شيء تبقى لحلب في نفسي نكهة خاصة ستلازمني ما حييت