جزر انسانية في بحار البيوت

[آلاء]

بيوت منكفئة داخل بيوت، وفي نهاية غرفها ذوات تجترُّ الحوار مع نفسها!! جدران، وحواجز نفسية انبنت من التوجس، والخوف، وخلت من الحوار، وتقبل الرأي الآخر فأصبحت العلاقة قاتمة، وصامتة.. ذات طابع رسمي، وروتيني تحكمه الفوقية، ويبرر شرعيته حق الأبوة المهدر لحق الابن أو الأمومة المهدرة لحق البنت، ومبدأ الأكبر للأصغر، والذكورة للأنوثة.. بين أبٍ، وأبنائه، وأخ وأخته!! وزوج وزوجته!! غرف كثيرة، ومداخل أكثر للبيت الواحد لكن المسافة طويلة فيما بين أفراد الأسرة الواحدة.. تجمعهم سفرة القوت، ويبكون معاً إذا فُقد أحداً منهم!! لا بخل في العطاء فيما بينهم إن كان درهماً، لكن الشح في العاطفة ما أغزره فيما بينهم!! سمة الاضطراب في العلاقة وفي ذات كل فرد منهم!! شريحة من واقع متفتح شكلاً، ومتناقض مضموناً في عالم متغير، ومتلاحق في تقنياته!!
من واقع العيادة النفسية

جزيرة رقم (1):
- تجاوزت العشرين من عمري، ولو طلب مني حصر الكلمات، والجمل التي تحاورت فيها مع والدي لقدرت على عدّها، وتذكر المواقف التي حدثته فيها.. دائماً آتي إلى أبي أود قول شيء!! إبداء رأي فأكون خائفة.. منذ أن كان عمري ثلاث سنوات وأنا أعيش هذه الحالة من الخوف والتردد.. وفي الأخير حسمت صراعي فلم أعد أفكر في البحث عن التفاهم مع أبي أو البوح إليه بأي شيء.. فتعاملت معه كجهاز صراف آلي ينهمر منه المال ليس بضغط إصبعي على رقمي السري، وإنما من خلال.. عبارة واحدة "أريد مبلغاً قدره كذا، وكذا" والحمد لله الرصيد دائم متوفر.

جزيرة رقم (2):
تجاوزت الآن 27 سنة وعلى وشك الزواج، وموظف ناجح في عملي.. لكن بمجرد دخولي البيت أشعر كأني أعيش في فندق من الفئة المتوسطة في توفير كل ما أريد إلا الشعور بالانتماء، الإحساس بالمشاعر المتبادلة.. لذا حياتي مع أسرتي رتيبة، وكئيبة، وحتى ابتسامتي مصطنعة.. اعتدت أسلوب تلك الحياة، وأعتقد أن العلاقة بيني، وأفراد الأسرة ستبقى ذات طابع رسمي، خالية من النبض، والحركة.. مثل هذا الشعور يقتلني، ويؤلمني، وهو الذي دفعني إلى مراجعة العيادة.. فالأرق ليلاً أصبح رفيقاً لي.. وكم من الأفكار تعاركني، وأنتهي إلى سؤال واحد: أيعقل أن الأبوة هكذا؟!!

جزيرة رقم (3):
لا أعرف لماذا والدتي، منذ شعرت بوجودها.. بعيدة عن ملاطفتي، وملامستي.. مئات المواقف، وأنا طفلة بريئة كنت أتمنى أن تحضنني.. أن أبكي حتى أغفو في حجرها لكنها أحلام، والمزعج أن تلك المشاعر مازالت جاثمة في ذاتي، وأكثر ما يوجعني أن أسمع بعض صديقاتي يتحدثون عن حنان ولطف أمهاتهم.. مثل هذا الموقف يجعلني مكتئبة دائماً.. أدركت أخيراً أن تساقط شعري، وعصبيتي، ومزاجي المتقلب كل ذلك عائد إلى عدم استقراري بين أفراد أسرتي، وبالذات مع والدتي.. خاصة أن والدي توفي، وتزوجت والدتي من رجل آخر منحته كل شيء خوفاً من انفصالها.

جزيرة رقم (4):
أبلغ من العمر 19 سنة، وكلما سافر أبي.. أكون في أشد الشوق إليه.. فحين يأتي لا تُعرف كيف تكون لحظة مجيئه.. أنتظر أن يحضنني.. يبقى معي، يحكي لي مشاعره.. شوقه.. لم أكن صامتة في التعبير عن مشاعري، وما يجول في رأسي.. لكن لم أجد صدى أو ردوداً منه، ومع الوقت انطفأت مشاعري، وخمدت أفكاري.. فأصبحت العزلة، وبقائي على الإنترنت كل شيء.


ما الأسباب
وبعد.. ما أسباب هذه الحالات الإنسانية؟
الخلافات العائلية بين الأبوين:
إذا اتفقنا أن نسبة الطلاق على امتداد الوطن العربي تتراوح بين 30 و35% تقريباً.. كما تشير إلى ذلك نتائج الدراسات، وأرقام وزارات العدل في معظم الدول العربية.. فإن معنى هذا أن حديثنا عن العلاقة بين أفراد الأسرة، قد تندرج تحته جوانب عديدة، أبرزها حالات الانفصال الفعلي.. وفي المقابل كم لدينا من علاقات زوجية تعيش ما يسمى الطلاق النفسي.. الذي يسود أجواءه الصمت والتعايش الاضطراري من أجل وجود أطفال تلبى رغباتهم وحاجاتهم البيولوجية..
أما عن إهمال الحاجات النفسية للأبناء فحدث بلا حرج عما يشعرون به من شد، وإهمال، وصراخ بين الأبوين أمام أعينهم أو خلف جدران غرفة النوم..
الحالة النفسية والعقلية:
علينا أيضاً ألا ننسى الحالة النفسية أو العقلية لكلا الأبوين، فهناك الأم أو الأب الفصامي أو الكئيب.. أو ذو الميول المعادية للمجتمع.. أو الأب المغيب عن طبيعة مسؤولياته.. أو الأم السيئة.. أو الأب العدواني.. وكذلك التباين، والمبالغة في أساليب التنشئة، إما دلال، ورعاية زائدة تخرج أطفال معتمدين دون شخصية، ينشؤون على مبدأ (يأخذ ولا يعطي) وإما إهمال، وجفاء في المشاعر.. يؤدي إلى شعور بالرفض، أو كمّ من الأعراض النفسية التي تخبئ نوعية الأسلوب غير المتوازي في التربية.
أولاد بالجملة
وهناك مشكلة العائلة المكتظة بالأولاد وهي موجودة في عالمنا العربي بنسبة كبيرة.. مثل تلك الأجواء تعكس أوضاعاً مادية منخفضة ونفسية لها أثرها على شخصية الأطفال واستقرارهم.. فالأم داخل تلك الأسر لا تقدر على تلبية الاحتياجات النفسية لأطفالها لأنها تكون مستهلكة دائماً في أعمال البيت على حساب منح التفاعل، وتفهم حالات أبنائها نفسياً أو تحصيلياً..


وما الحل؟
ومن أجل مواجهة وكسر الحواجز التي تقف حاجزاً بين أفراد الأسرة، ليشعر الكل بالحب والتفاهم والاستقرار.. فإن ذلك يتطلب وعياً، واستشارة وتعلم مهارة (تنطيق) المشاعر، والتعبير عن الرأي، وتقبله من الأبوين وهذا بدوره يحتاج إلى علاقة ناجحة أولاً بين الشريكين (الزوج والزوجة) أمام أبنائهما منذ الطفولة، لتكون العلاقة المستقرة أسلوب حياة، ونموذجاً واقعياً يقتدي به الطفل بتلقائية.. لأن المسألة ليست مجموعة نصائح أو خطوات تكتب وعلى الآباء أو الأبناء تنفيذها بمجرد قراءتها.. الكل - وبالذات الآباء - يعرفون حقوق الأبناء، لكن للأسف الحقوق المحفوظة دائماً مادية، أما المشاعر وإشباع الحاجات النفسية فقائمة على قناعة وإدراك لأبعادها على شخصية الطفل..
ولعل من المفيد أن نتوجه بهذا الحديث إلى الزوجين، اللذين لم يتزوجا بعد، فمهارة الاختيار تسبق مهارة التعامل، فالتوافق بين الشريكين هو ما يجعل القاعدة صلبة، وقائمة على التفاهم وتبادل الحب والقدرة على العطاء فيما بعد لأبنائهم.. أما من يعيشون العلاقة الزوجية، والتوتر، والتباعد بين أفراد أبنائها فتحتاج إلى إحساس منهم بالمشكلة أولاً، وطلب الاستشارة.. ومواجهة مشاكل أبنائهم بأسلوب يناسب كل مرحلة عمرية لكل منهم.
منقول